فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال الإمام أحمد: حدثنا يَعْمَر بن بشر حدثنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا صفوان بن عمرو، حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه قال: جلسنا إلى المقداد بن الأسود يومًا، فمر به رجل فقال: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم! لوددنا أنا رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت. فاستغضب، فجعلت أعجبُ، ما قال إلا خيرًا! ثم أقبل إليه فقال: ما يحمل الرجل على أن يتمنى مَحْضَرًا غيبه الله عنه، لا يدري لو شهده كيف كان يكون فيه؟ والله لقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام أكبَّهم الله على مناخرهم في جهنم، لم يجيبوه ولم يصدقوه، أو لا تحمدون الله إذ أخرجكم لا تعرفون إلا ربكم مصدقين لما جاء به نبيكم، قد كُفيتم البلاء بغيركم؟ لقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم على أشد حال بعث عليها نبيًا من الأنبياء في فترة من جاهلية، ما يرون أن دينا أفضل من عبادة الأوثان. فجاء بفُرقان فَرَقَ به بين الحق والباطل، وفَرَقَ بين الوالد وولده، حتى إن كان الرجل ليرى والده وولده، أو أخاه كافرًا، وقد فتح الله قُفْل قلبه للإيمان، يعلم أنه إن هلك دخل النار، فلا تقر عينه وهو يعلم أن حبيبه في النار، وإنها التي قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}. وهذا إسناد صحيح، ولم يخرجوه.
وقوله: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} قال ابن عباس، والحسن، وقتادة، والسدي، والربيع بن أنس: أئمة يقتدى بنا في الخير.
وقال غيرهم: هداة مهتدين ودعاة إلى الخير، فأحبوا أن تكون عبادتهم متصلة بعبادة أولادهم وذرياتهم وأن يكون هداهم متعديًا إلى غيرهم بالنفع، وذلك أكثر ثوابًا، وأحسن مآبًا؛ ولهذا ورد في صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به من بعده، أو صدقة جارية».
{أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)}.
لما ذكر تعالى من أوصاف عباده المؤمنين ما ذكر من هذه الصفات الجميلة، والأفعال والأقوال الجليلة- قال بعد ذلك كله: {أُوْلَئِك} أي: المتصفون بهذه {يُجْزَوْن} أي: يوم القيامة {الْغُرْفَةَ} وهي الجنة.
قال أبو جعفر الباقر، وسعيد بن جبير، والضحاك، والسُّدِّيّ: سميت بذلك لارتفاعها.
{بِمَا صَبَرُوا} أي: على القيام بذلك {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا} أي: في الجنة {تَحِيَّةً وَسَلامًا} أي: يُبْتَدرُون فيها بالتحية والإكرام، ويلقون فيها التوقير والاحترام، فلهم السلام وعليهم السلام، فإن الملائكة يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار.
وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} أي: مقيمين، لا يظعنون ولا يَحُولون ولا يموتون، ولا يزولون عنها ولا يبغون عنها حولا كما قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108].
وقوله: {حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} أي: حسنت منظرا وطابت مَقيلا ومنزلا.
ثم قال تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي} أي: لا يبالي ولا يكترث بكم إذا لم تعبدوه؛ فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه ويوحدوه ويسبحوه بكرة وأصيلا.
وقال مجاهد، وعمرو بن شعيب: {مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي} يقول: ما يفعل بكم ربي.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} يقول: لولا إيمانكم، وأخبر الله الكفار أنه لا حاجة له بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين، ولو كان له بهم حاجة لحبب إليهم الإيمان كما حببه إلى المؤمنين.
وقوله: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} أي: أيها الكافرون {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} أي: فسوف يكون تكذيبكم لزامًا لكم، يعني: مقتضيا لهلاككم وعذابكم ودماركم في الدنيا والآخرة، ويدخل في ذلك يوم بدر، كما فسره بذلك عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، ومحمد بن كعب القرظي، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والسدي، وغيرهم.
وقال الحسن البصري: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} يعني: يوم القيامة. ولا منافاة بينهما. والله أعلم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{والذين لا يشهدون الزور}.
عاد إلى ذكر أوصاف {عباد الرحمن} والظاهر أن المعنى لا يشهدون بالزور أو شهادة الزور، قاله عليّ والباقر فهو من الشهادة.
وقيل: المعنى لا يحضرون من المشاهدة والزور الشرك والصنم أو الكذب أو آلة الغناء أو أعياد النصارى.
أو لعبة كانت في الجاهلية أو النوح أو مجالس يعاب فيها الصالحون، أقوال.
فالشرك قاله الضحاك وابن زيد، والغناء قاله مجاهد، والكذب قاله ابن جريج.
وفي الكشاف عن قتادة مجالس الباطل.
وعن ابن الحنفية: اللهو والغناء.
وعن مجاهد: أعياد المشركين و{اللغو} كل ما ينبغي أن يُلغى ويُطرح.
والمعنى {وإذا مروا} بأهل اللغو {مروا} معرضين عنهم مكرمين أنفسهم عن التوقف عليهم.
والخوض معهم لقوله: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه}. انتهى.
{بآيات ربهم} هي القرآن.
{لم يخروا عليها صمًا وعميانًا} النفي متوجه إلى القيد الذي هو صم وعميان لا للخرور الداخل عليه، وهذا الأكثر في لسان العرب أن النفي يتسلط على القيد، والمعنى أنهم إذا ذكروا بها أَكَبّوا عليها حرصًا على استماعها، وأقبلوا على المذكر بها بآذان واعية وأعين راعية، بخلاف غيرهم من المنافقين وأشباههم، فإنهم إذا ذكروا بها كانوا مكبين عليها مقبلين على من يذكر بها في ظاهر الأمر، وكانوا {صمًا وعميانًا} حيث لا يعونها ولا يتبصرون ما فيها.
قال ابن عطية: بل يكون خرورهم سجَّدًا وبكيًا كما تقول: لم يخرج زيد إلى الحرب جزعًا أي إنما خرج جريئًا معدمًا، وكان المسمع المذكر قائم القناة قويم الأمر فإذا أعرض كان ذلك خرورًا وهو السقوط على غير نظام وترتيب، وإن كان قد أشبه الذي يَخّر ساجدًا لكن أصله أنه على غير ترتيب. انتهى.
وقال السدّي {لم يخروا} {صمًا وعميانًا} هي صفة للكفار، وهي عبارة عن إعراضهم وجهدهم في ذلك.
وقرن ذلك بقولك: قعد فلان يتمنى، وقام فلان يبكي، وأنت لم تقصد الإخبار بقعود ولا قيام وإنما هي توطئات في الكلام والعبارة.
{قرة أعين} كناية عن السرور والفرح، وهو مأخوذ من القر وهو البرد.
يقال: دمع السرور بارد، ودمع الحزن سخن، ويقال: أقر الله عينك، وأسخن الله عين العدو.
وقال أبو تمام:
فأما عيون العاشقين فأسخنت ** وأما عيون الشامتين فقرت

وقيل: مأخوذ من القرار أي يقر النظر به ولا ينظر إلى غيره.
وقال أبو عمرو: وقرة العين النوم أي آمنًا لأن الأمن لا يأتي مع الخوف حكاه القفال، وقرة العين فيمن ذكروا رؤيتهم مطيعين لله قاله ابن عباس والحسن وحضرمي كانوا في أول الإسلام يهتدي الأب والابن كافر والزوج والزوجة كافرة، وكانت قرة عيونهم في إيمان أحبابهم.
قال ابن عباس: قرة عين الولدان تراه يكتب الفقه والظاهر أنهم دعوا بذلك ليجابوا في الدنيا فيسروا بهم.
وقيل: سألوا أن يلحق الله بهم أولئك في الجنة ليتم لهم سرورهم. انتهى.
ويتضمن هذا القول الأول الذي هو في الدنيا لأن ذلك نتيجة إيمانهم في الدنيا.
ومن الظاهر أنها لابتداء الغاية أي {هب لنا} من جهتهم ما تقربه عيوننا من طاعة وصلاح، وجوز أن تكون للبيان قاله الزمخشري قال: كأنه قيل {هب لنا} {قرة أعين} ثم بينت القرة وفسرت بقوله: {من أزواجنا وذريتنا} ومعناه أن يجعلهم الله لهم قرة أعين من قولك: رأيت منك أسدًا أي أنت أسد. انتهى.
وتقدم لنا أن {من} التي لبيان الجنس لابد أن تتقدم المبين.
ثم يأتي بمن البيانية وهذا على مذهب من أثبت أنها تكون لبيان الجنس.
والصحيح أن هذا المعنى ليس بثابت لمن.
وقرأ ابن عامر والحرميان وحفص وذرياتنا على الجمع وباقي السبعة وطلحة على الإفراد.
وقرأ عبد الله وأبو الدرداء وأبو هريرة قرات على الجمع، والجمهور على الإفراد.
ونكرت القرة لتنكير الأعين كأنه قال هب لنا منهم سرورًا وفرحًا وجاء {أعين} بصيغة جمع القلة دون عيون الذي هو صيغة جمع الكثرة لأنه أريد أعين المتقين وهي قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم قاله الزمخشري.
وليس بجيد لأن أعين تنطلق على العشرة فما دونه من الجمع، والمتقون ليست أعينهم عشرة بل هي عيون كثيرة جدًا وإن كانت عيونهم قليلة بالنسبة إلي عيون غيرهم فهي من الكثرة بحيث تفوت العد.
وأفرد {إمامًا} إما اكتفاء بالواحد عن الجمع، وحسنه كونه فاصلة ويدل على الجنس ولا لبس، وأما لأن المعنى واجعل كل واحد {إمامًا} وإما أن يكون جمع آمّ كحال وحلال، وإما لاتحادهم واتفاق كلمتهم قالوا: واجعلنا إمامًا واحدًا دعوا الله أن يكونوا قدوة في الدين ولم يطلبوا الرئاسة قاله النخعي.
وقيل: في الآية ما يدل على أن الرئاسة في الدين يجب أن تطلب.
ونزلت في العشرة المبشَّرين بالجنة.
{أولئك} إشارة إلى الموصوفين بهذه الصفات العشرة.
و{الغرفة} اسم معرف بأل فيعم أي الغرف كما جاء {وهم في الغرفات آمنون} وهي العلالي.
قال ابن عباس: وهي بيوت من زبرجد ودر وياقوت.
وقيل {الغرفة} من أسماء الجنة.
وقيل: السماء السابعة غرفة.
وقيل: هي أعلى منازل الجنة.
وقيل: المراد العلو في الدرجات والباء في {بما صبروا} للسبب.
وقيل: للبدل أي بدل صبرهم كما قال:
فليت لي بهم قومًا إذا ركبوا

أي فليت لي بدلهم قومًا ولم يذكر متعلق الصبر مخصصًا ليعم جميع متعلقاته.
وقرأ الحسن وشيبة وأبو جعفر والحرميان وأبو عمرو وأبو بكر {ويُلَقّون} بضم الياء وفتح اللام والقاف مشددة.
وقرأ طلحة ومحمد اليماني وباقي السبعة بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف.
والتحية دعاء بالتعمير والسلام دعاء بالسلامة، أي تحييهم الملائكة أو يحيي بعضهم بعضًا.
وقيل: يحيون بالتحف جمع لهم بينهم المنافع والتعظيم.
{حسنت مستقرًا ومقامًا} معادل لقوله في جهنم {ساءت مستقرًا ومقامًا}.
ولما وصف عباده العباد وعدد ما لهم من صالح الأعمال أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصرح للناس بأن لا اكتراث لهم عند ربهم إنما هو العبادة والدعاء في قوله: {لولا دعاؤكم} هو العبادة والظاهر أن {ما} نفي أي ليس {يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم} ويجوز أن تكون استفهامية فيها معنى النفي أي، أي عبء يعبأ بكم، و{دعاؤكم} مصدر أضيف إلى الفاعل أي لولا عبادتكم إياه أي لولا دعاؤكم وتضرعكم إليه أو ما يعبأ بتعذيبكم لولا دعاؤكم الأصنام آلهة.
وقيل: أضيف إلى المفعول أي لولا دعاؤه إياكم إلى طاعته.
والذي يظهر أن قوله: {قل ما يعبأ بكم} خطاب لكفار قريش القائلين نسجد لما تأمرنا أي لا يحفل بكم ربي لولا تضرعكم إليه واستغاثتكم إياه في الشدائد.